التدخّل المبكّر… أهمية قصوى ووقاية أساسية لذوي الإعاقة

جاء مصطلح التدخّل المبكّر بديلاً من مصطلح الوقاية، ويشير بمضمونه إلى نوع من الخدمات المتنوّعة (الطبيّة، الاجتماعيّة، التربويّة، النفسيّة) للأطفال دون السادسة من العمر يعانون إعاقةً أو تأخّراً نمائيّاً أو ممنْ لديهم قابليّة للتأخّر أو الإعاقة.
ولا تتوقّف هذه الخدمات عند ذلك وإنّما تشمل أيضاً تقديمَ برامج تركّز على تطوير مهارات أولياء الأمور لمساعدتهم على النموّ والتعلّم، فالتدخّل المبكّر مجموعة إجراءات منظّمة تهدف إلى تشجيع أقصى نموّ ممكن للأطفال دون عمر السادسة من ذوي الاحتياجات الخاصّة، وتدعيم أسرهم بالكفايات المعرفيّة المطلوبة.
وعند شرح المصطلح، فإنّ كلمة (تدخُّل) تعني العلاج، وكلمة (مبكّر) تعني المرحلة التي تبدأ قبل أن يصل الطفل إلى سنّ ست سنوات أو أصغر من ذلك.
أهميّة التدخّل المبكّر وفوائده:
تنبع أهميّة التدخّل المبكّر من:
1ـ أهميّة مرحلة الطفولة المبكّرة: فالخبرات الأوليّة في الحياة لها تأثيرات كبيرة على النموّ في جوانبه جميعها، حيث إنّ مرحلة الطفولة المبكّرة يحدث فيها ما يُعرف بفترات النموّ الحرجة، وفيها يكون الطفل في ذروة استعداده وقابليّته للنموّ والتغيّر، ولذلك فالتدخّل المبكّر يسعى لاستثمار هذه الفترات لتطوير قدرات الطفل العقليّة واللغويّة والاجتماعيّة.
2ـ مرونة الذكاء والسمات الإنسانيّة الأخرى: تنعكس المؤثّرات البيئيّة على الذكاء من خلال عمليّة التعلّم، فالعوامل البيئيّة قوى فاعلة في تشكيل طبيعة كل طفل، ولحسن الحظّ تؤكّد الدراسات حدوث زيادة في معدّل الذكاء نتيجة العوامل البيئيّة الداعمة.
3ـ يُحسّن التدخّل المبكّر من الوضع الصحيّ والنمائيّ العامّ للطفل، وبالتالي يعمل على خفض التكاليف الماديّة للعلاجات الطبيّة وغير الطبيّة التي تحتاجها هذه الفئة.
4ـ أهميّة مرحلة ما قبل المدرسة: يرتبط دور التدخّل المبكّر بأهميّة مرحلة ما قبل المدرسة، وإنْ لم يتمكّن بالحدّ الأدنى من معالجة مشكلات تلك المرحلة فهو قادر على تخفيفها أو منع تفاقمها بشكل حادّ في المستقبل.
5ـ خدمات التدخّل المبكّر تتعدّى الطفل لتصل إلى الأسرة حيث يوجّهها إلى كيفيّة التعامل مع الطفل.
إنّ أهمية التدخّل المبكّر تنبع من فاعليّته ونتائجه الملموسة في كثير من الحالات، والنقاط السابقة تبرّر هذه الأهميّة باعتبارها أكبر مقوّمات نجاحه للوصول بالطفل إلى أقصى تطوّر من ناحية الإمكانات والقدرات.
أشكال التدخّل المبكّر:
للتدخّل المبكّر أشكال عدّة نذكر منها:
1ـ التدخّل المبكّر في المنزل: يقوم فيه الوالدان بدور المعلّم الرئيسي للطفل، حيث تُقدَّم خدمات التدخّل المبكّر للأطفال الصغار (بعمر السنتين تقريباً) في منازلهم مع وجود معلّمات أُسريّات مدرّبَات جيّداً يقمن بزيارة منزل الطفل مرّة أو مرّتين أسبوعيّاً لجمع المعلومات عنه وعن تطوّره، عادة ما يُستخدم هذا الشكل في الأماكن الريفيّة النائية، ومن أهمّ ميزاته أنّه يتضمّن تدريب الطفل في بيئته الطبيعيّة، كما أنّه غير مكلف، أمّا سلبيّاته تتلخّص في عدم قدرة بعض أولياء الأمور على تدريب أطفالهم بشكل فعّال ويحتاج مجهوداً كبيراً معهم.
2ـ التدخّل المبكّر في المركز: يلتحق فيه الأطفال من عمر 2 حتى 6 سنوات في مراكز خاصّة بواسطة مهنيين للاستفادة من البرامج المقدّمة لهم لمدّة تتراوح من 3 لـ 5 ساعات يوميّاً، يتمّ تقييم الاحتياجات لكلّ طفل على حدا باستخدام اختبارات أو مقاييس تساعد على وضع خطّة أو برنامج فرديّ يتضمّن أهدافاً محدّدة، يتميّز هذا الشكل بوجود فريق متعدّد الاختصاصات يقوم بالتخطيط والتنفيذ وتوفير فرص تفاعل اجتماعيّ مع الأطفال، وتقديم نموذج توعويّ للمجتمع حول التدخّل المبكّر، أمّا سلبيّاته تكمن في التكلفة الماديّة المرتفعة وعدم توفّر المواصلات.
إضافةً لهذين الشكلَين، توجد برامج تدخّل أخرى تشمل المركز والمنزل معاً من خلال تقديم الاستشارات وتوظيف الصفوف المتنقّلة والحضانات ورياض الأطفال.
الفئات المستهدفة في برامج التدخّل المبكّر:
1ـ الأطفال المتأخّرون نمائيّاً في مجالَين أو أكثر، أو لديهم مشكلة أو عجز محدّد معروف الأسباب والأعراض، كمتلازمة داون، التشوّهات الخلقية، الشلل الدماغيّ.
وليس من الضروريّ أن تظهر على هذه الفئة علامات تأخّر نمائيّ في مرحلة الطفولة المبكّرة ، ولكنّ احتماليّة ذلك لا تقلّ عن 90%.
2ـ الأطفال ذوو الخطر البيولوجيّ: لديهم تاريخ مرضيّ قبل الميلاد أو أثناء الولادة أو بعدها، قد يؤثّر على نموّ الجهاز العصبيّ المركزيّ، ويزيد احتمال ظهور تأخّر نمائيّ أو مشكلات تعلّم إذا لم يحدث تدخّل علاجيّ، ومن أهمّ عوامل الخطر البيولوجيّ إدمان الأمّ على المخدرات، أو تناولها عقاقير أثناء الحمل.
3ـ أطفال تعرّضوا لحرمان بيئيّ: هذه الفئة لا تعاني اضطرابات نمائيّة أو بيولوجيّة أو وراثيّة، إلّا أنّ نوعيّة خبراتهم المبكّرة وظروفهم البيئيّة تمثّل تهديد محتمل لنموّ سويّ، وقد ينتج عنها مشكلات سلوكيّة معرفيّة في المستقبل، وعوامل الخطر هنا: سوء التغذية، سوء الرعاية الوالديّة، نقص الرعاية الطبيّة، بيئة أسريّة فقيرة اقتصاديّاً وثقافيّاً.
إنّ التدخّل المنظّم والمدعّم بأهداف واضحة للفئات السابقة تبعاً للتقييم الطبيّ والتربويّ يقدّم أقصى فائدة لها، ولعلّ أهمّ برامج التدخّل المبكّر التي تخدم الفئات السابقة برنامج البورتيج الذي صُمّمه الباحث الأمريكيّ ديفيد شيرر عام 1969م في مدينة بورتيج/ولاية سكانس في الولايات المتحدة الأمريكيّة ليخدم ذوي الاحتياجات الخاصّة حتّى عمر الست سنوات، وسرعان ما انتشر البرنامج في العديد من مناطق العالم مثل كندا ودول أوروبا وأمريكا اللاتينيّة، وعلى المستوى العربيّ مُدِّد العمل بالبرنامج ليشمل الفئة العمريّة من 6 حتى 9 سنوات نظراً لقلّة الخدمات والبرامج التأهيليّة في البلدان العربيّة.
على الصعيد المحلّي يُعدُّ برنامج البورتيج من البرامج المعتمدة رسميّاً في العديد من المراكز والجمعيات المعنية بتأهيل الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصّة، كما يوجد فِرق جوّالة تقدّم خدمات ضمن الأسرة الواحدة.
إنّ برنامج البورتيج مشروع تعليميّ للتدخّل المبكّر يُطبَّق على الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصّة، حيث يقوم المشروع بتدريب الأمّ على كيفيّة تعليم طفلها والتعامل معه، ولذلك يُعتبَر برنامجاً تثقيفيّاً للأمّهات يؤهلهنّ ليصبحن المدرّسات الحقيقيّات لأطفالهنّ، ويعتمد هذا البرنامج على زيارة الأمّ مرّة واحدة في الأسبوع لمدّة (ساعة وربع) وتزويدها بالأسس المتعلّقة برعاية الطفولة والتعليم الخاصّ والمؤثّرات الحسيّة التي تؤدّي إلى تطوير مهارات الطفل المتعدّدة.
إنّ إحدى مزايا هذا البرنامج هو الوصول إلى الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصّة صغيرِي السنّ في مختلف أماكنهم، إضافة إلى تخفيف التكاليف الباهظة التي تتطلّبها المراكز والمؤسّسات الخاصّة، كما أنّه يستثمر أيضاً في تكوين العامل البشريّ المؤهّل، فهو لا يشترط على العاملين فيه حصولهم على شهادات جامعيّة عليا، وقد تبيّن بأنّ اختيار مربيات البيئة ذاتها التي يتمّ العمل فيها يزيد من حالة التفاهم بين العائلات التي تتلقّى الخدمات وفريق العمل، ممّا يؤدّي إلى نجاح الثقة المتبادلة بين الطرفين وزيادتها.
لبرنامج البورتيج مجالات عدّة: مجال النموّ المعرفيّ الذي يركّز على مهارات الفهم والتعلّم لدى الأطفال، مجال النموّ اللغويّ ويهدف إلى تعزيز اللغة والتواصل لدى الأطفال ومساعدتهم على تطوير مهارات الكلام، مجال النموّ الحركيّ الذي يشجّع على تنمية المهارات الحركيّة والتنسيق الحركيّ لدى الأطفال إضافة إلى مجال التنشئة الاجتماعيّة الذي يساعد على تعزيز التفاعل الاجتماعيّ ومهارات التواصل لدى الأطفال.
وأخيراً مجال الرعاية الذاتيّة الذي يعمل على مساعدة الأطفال في تنمية مهارات الاعتماد على النفس والقيام بأنشطة الحياة اليوميّة بشكل مستقلّ.
إنّ تطبيق مجالات البرنامج كان له العديد من النتائج الإيجابيّة لدمج العديد من الأطفال أكاديميّاً في المدراس ممّنْ لديهم صعوبات تعلّم وبطء تعلّم، كذلك للدمج الاجتماعيّ في بعض الحالات الأكثر صعوبة كالتوحّد والتخلّف العقليّ المتوسّط.
أخيراً إنّ أهميّة التدخّل المبكّر تطرح نفسها بكلّ قوة في الميدانَين التربويّ والتعليميّ لما لها من آثار كبيرة في تخفيف الإعاقات واكتشافها في وقت مبكّر، كما أنّها تزوّد الأطفال بأساس متين للتعليم التربويّ والاجتماعيّ في المراحل العمريّة اللاحقة، لذلك من الضروري بمكان: الاهتمام بهذا الدور وتسليط الضوء على فوائده الكبيرة في زيادة مستوى الوعي والتثقيف محليّاً ومجتمعيّاً بشكل يساعد على تنشئة أفراد مُدمَجين مُتكيّفين بأقلّ الخسائر الممكنة على الفرد ومحيطه.

د. نورا سلمان

المراجع:
العجميّ، ناديا علي (2019). التدخّل المبكّر وبرنامج بورتيج. الأردن، عمّان: دار يافا العلميّة للنشر والتوزيع.
الخطيب، جمال؛ الحديدي، منى(1998). التدخّل المبكّر(مقدمة في التربية الخاصّة). ط1، الأردن، عمّان: دار الفكر للنشر.
لالوش، صليحة؛ عبيب، غنية (2021). التدخّل المبكّر للأطفال ذوي الاحتياجات المبكّرة.مجلّة سوسيولوجيا، المجلّد الخامس، العدد الثاني، ص 134_ 149.
الصباطي، ابراهيم؛ الشحات ، مجدي؛ العمري، أحمد(2012). التدخّل المبكّر. ط1، ، السعودية، الرياض: مكتبة دار الرشد.